_الفصـل السـادس_
أوشك أملُها علي الإنتهاء ، خمسة عشر يومًا و والدها لا يزال فاقدًا للوعي ، حبيس الجدران طريح الفراش.
لم تملّ يومًا من التحدث إليه و توسّلهُ أن يعود إلي الحياة لأجلها و لكنهُ يأبي الإستجابه..
إنطفأت ملامحها بالكامل و أصبح جسدها هزيلًا و وجهها عابسًا.
كانت تقف أمام الغرفه التي يرقد بها والدها وتسند رأسها إلي زجاج الغرفه و تبكي دون هوادةٍ إلي أن إنتبهت علي يدهُ تربت فوق كتفها مردفًا : متعبتيش من الوقفه؟
نظرت إليه بعينان جافتان وقالت: فِكرك لو أنا اللي مكانه كان هيتعب من الوقفه قدام ازاز الاوضه يستناني أقوم و أضحك في وشه من تاني ؟
إلتوي قلبهُ وقال ملهوفًا: بعد الشر عنك يا آصال .
قاطعته وقالت: شر أكتر من كده؟!
و بكت عيناها الفقد و الإشتياق و تابعت: بابا.. الوحيد اللي بيحبني في الدنيا دي.. الحضن و الايد اللي بتسند و بتطبطب.. ابويا يا تميم.. ابويا راقد علي سرير في مستشفى وعنده جلطه وداخل في غيبوبه بقاله اسبوعين ومش عارفه اذا كان هيقوم منها ولا لا.. وانت تقولي بعد الشر عليكي ؟! ده أكبر شر ممكن أتعرض له يا تميم.
تنهد الآخر بحزنٍ شديد وقال: إن شاء الله هيبقا كويس.. أنا واثق و متأكد إن عمي هيقوم بالسلامه بإذن الله ، خلي عندك يقين في ربنا.
أزالت دمعاتها وقالت: ونعم بالله.
إبتسم بلطف وقال بنبرةٍ حنونه: مش هتاكلي معايا بقا؟! إفتحي نفس إبن عمك!
أومأت برأسها أن لا فقال: فاكره وإنتي صغيره لما كنتي بتسرقي مني الأكل ؟
إنتزع منها ضحكتها عُنوةً حتي إتسعت إبتسامتها وقالت: فاكرة.
تابع فقال : طب فاكرة الواد أحمد كان بيقولك إيه لما كنتي بتسرقي سندوتشاته؟
إنفلتت ضحكتها و صدحت عاليًا ثم قالت: كان بيقوللي الأكل فيه سم و هتموتي بكره.
هز رأسه مؤكدًا وقد دخلا سويًّا في نوبة ضحك هيستيريه سرعان ما إنسحبت منها سريعًا وقد عادت دمعاتها تهاجمها من جديد وقالت بصوتٍ خفيض: كل حاجه إتغيرت.. حتي إنتوا.
آلمهُ حديثها و ودّ أن يبرر لها ما بَدَر منهُ حيث قال: آصال ، صدقيني أنا لو كنت عرفت الموضوع اللي حصل معاكي ده قبل ما أسافر أنا إستحاله كنت أسافر و أسيبك لوحدك..
قاطعتهُ قائلة: خلاص يا تميم مفيش منه فايده الكلام ده دلوقتي.
_بس أنا مش قادر أسامح نفسي علي تقصيري في حقك و في حق عمي ، مش قادر أتخيل إني لو كنت سمعت كلامك ومسافرتش جايز كنت عرفت أتصرف ومضطرتيش وقتها تقولي لعمي وحصل اللي حصل..
~إسترجاع زمني قصير ~
يحلس على مقعدٍ بإحدي زوايا المشفي ينتظر إفاقتها كاملًا حتي يتسنّي لهُ الحديث إليها و بمجرد ما إن أخبرتهُ الممرضه بخبر إفاقتها حتي ذهب مسرعًا إلي غرفتها يطمئن على حالها.
دلف إلي الغرفة ليجدها وقد إنكمشت حول نفسها ، تحوي جسدها بكلتا يديها ،إقترب منها بهدوء وهو يقول: عامله إيه يا آصال دلوقتي!
رؤيتهُ كانت بمثابة حممٍ من الجحيم قد أصابتها ، إنتفضت فجأه و ثارت بقوة و إهتاجت صرخاتها حتي وصلت إلي مسامع جميع الموجودين بالمشفي.
قال بإصرار: آصال أرجوكي إسمعيني، أنا عايز أتكلم معاكي ، لازم نتكلم.. وغلاوة عمي عندك..!!
فور ذكرهُ لوالدها لان قلبها رويدًا و بدأت ثورتها تخمد شيئًا فـ شئ.
إطمئن لهدوئها المؤقت و إقترب بضعة خطوات ثم جلس أمامها علي حافة الفراش وقال: قبل أي حاجه.. أنا آسف.. أنا عارف إنك مش طايقه تبصي في وشي.. عارف إني خذلتك و خيبت ظنك فيا.. عارف إنك كنتي واثقه إني هكون جمبك لما تحتاجيني ، و أنا خُنت الثقه دي!
طالعتهُ بقهرٍ و بُغض إستشفّهُ من نظراتها فتابع: صدقيني أنا قدّرت الأمور غلط.. أنا آسف إني مكنتش جمبك في أكتر وقت إنتي محتاجاني فيه..
إنفرج فاها وقالت: إنت السبب يا تميم ، لو كنت فضلت مكانش حصل كده لبابا..
هز رأسه مستفهمًا وقال: تقصدي إيه بكلامك ده ؟ يعني إيه لو كنت فضلت مكانش حصل كده لعمي؟! فسري كلامك..
أخفضت رأسها أرضًا و إمتنعت عن الحديث فإقترب أكثر و سألها بإلحاح : آصال أنا مش فاهم حاجه!! إزاي أنا سبب في اللي حصل لعمي؟
أطلقت سراح لسانها وقالت: اللي حصل لبابا ده بسبب الزعل ، بعد اللي حكيتهوله مقدرش يستحمل و جاتله جلطه!
سالت دمعاتها وهي تتذكر ما حدث وتابعت: أنا إترجيتك تفضل جمبي لأني كنت هحكيلك .. كنت هطلب منك تساعدني وتدور معايا علي حل لمشكلتي.. ولما إنت سبتني وسافرت أنا كنت لوحدي، مكنتش قادره أتحمل الضغط النفسي اللي كان عليا لوحدي ، يومها فاض بيا ولقيتني بحكي لبابا ومن ساعتها تعب و دخل في غيبوبه..
كانت تقطيبة جبينه و إنعقاد حاجبيه دليلان علي تعجبه ومحاولة تكهنه بما حدث فقالت وهي تنظر داخل عينيه بحزن : أنا واقعه في مشكله كبيره يا تميم.. حد بيهددني وعايزني أروحله بيته مقابل إنه مينشرش صوري.
ضيّق عينيه متسائلاً بترقب وقلق: صورك؟؟!!
إستطردت ما بدأته وقالت : صور خدوها ليا وانا في بروڤا لإعلان موديلز..
أغمض عينيه بألم وقال بإستهجان: بردو موديلينج!!
أدارت وجهها جانبًا فقال بنبرة مختنقه: إنتي إزاي متقوليليش علي حاجه زي دي؟! كان المفروض أول ما ده حصل معاكي تبلغيني فورًا وأنا كنت إتصرفت..
طالعتهُ بلومٍ وقالت: إنت كنت بعيد.. كنت واخد جمب لوحدك.. وأنا حاولت أحل المشكله بنفسي.. حاولت أعتمد علي نفسي.. وفي نفس الوقت كنت خايفه بابا يعرف إني عملت حاجه هو منعني منها و يزعل..
سألها متهكمًا: و إزي الحال دلوقتي ؟
_تميم أنا مش بحكيلك عشان تتريق عليا.. أنا بحكيلك عشان أنا تعبت ومش عارفه أتصرف لوحدي..
توقفت عن الكلام لبرهه وأكملت: أنا لازم أبلغ عنه..لازم أخلص من شره..
_لا طبعًا مينفعش..
تعجبت رده فقالت: ليه مينفعش؟
_مينفعش فجأة كده.. لازم نتوهه و نخليه يحس إنه في الأمان الأول. ده أكيد شخص ذكي و واخد إحتياطاته ومش هيقع بسهوله..
=يعني إيه؟! هفضل تحت رحمته طول العمر ولا إيه؟
_لأ طبعًا محدش قال كده.. بس أنا من رأيي إنك لو تجاهلتيه خاالص هيزهق منك وهيبطل يبتزك… المبتز أصله ضعيف و جبان.. ولو كان عايز ينشر الصور كان نشرها من وقتها.. إنما هو عايز يتسلي ، عشان شايفك ضعيفه و سهل يضغط عليكي مستمر في لعبته القذره.
نظرت إليه بحيرة فقال: متقلقيش أنا جمبك.. مش هتخلي عنك تاني صدقيني.. سيبيلي الموضوع ده وأنا هحله متقلقيش..
** عوده من الإسترجاع الزمني**
_خلاص يا تميم اللي حصل حصل.. الحمدلله أنا بقيت أتجاهل رسايله زي ما قولتلي و فعليًا بقيت أحس إنه زهق و مبقاش بيبعت كتير زي الأول ، و با إن شاء الله هيقوم بالسلامه.. أنا متأكده إنه حاسس بيا و بيسمع كلامي اللي بفضل أقولهوله طول الليل وأنا جمبه . أنا بحس بكده.
أومأ بتوكيد وقال: أكيد طبعًا حاسس بيكي و لازم تفضلي تكلميه و تسمعيه صوتك عشان تحفزيه يرجع للوعي من تاني إن شاء الله.
أومأت بعد تنهيدةٍ متعبه أطلقتها قبل أن تنتبه لدخول ” معتز ” إلي المشفي مبتسمًا ثم توقف أمامهم و نزع نظارته و صافحهم فقال : عمي عامل إيه دلوقتي ؟
تجهم وجه ” تميـم ” و إحتدت لهجته ثم قال بإقتضاب: كويس.
تجاهلهُ “معتز” ونظر إلي ” آصال ” وقال : إتكلمتي مع الدكتور النهارده ؟
أومأت برأسها أن نعم ثم قالت: قاللي زي كل يوم ؛ الوضع مستقر!
زم شفتيه وأومأ بهدوء ثم قال: آصال لو سمحتي ممكن كلمه ؟
نظر بطرف عينهِ إلي ” تميم” و الذي برزت عروقه بغضب و إحتقنت عيناه بالدماء و أخذ يحرّك أصابع يدهُ بعشوائيه تدل علي فرط توترهُ.
تابع آصـال بعينيه وهي تسير إلي جانب المدعو “معتز” حتي توقفا في ركنٍ هادئ و ظل يدقق النظر محاولًا معرفة عمّا يدور حديثهما الهامس.
معتز : آصال ..مستر رياض أصرّ إني أدفع حساب المستشفي ، وقاللي كمان أبلغك إنك لو محتاجه أي حاجه متتردديش تطلبيها مني..
تراقصت الأحرف فوق شفتيها بتوتر وقالت: بس ده ملوش لزوم حضرتك يا مستر معتز.. تميم كان…
قاطعها قائلًا: تميم ده قريبك؟
أومأت بموافقه وقالت: إبن عمي!
منحهُ نظرةً متفحصه لتصطدم الأعين في تحدٍ صريح ثم عاد معتز ليقول : أرجو إنك تنتبهي شويه في تعاملك معاه.
إضطربت قليلًا و تلعثمت وهي تقول: مش فاهمـه!.. أنتبه ليه؟
قاطعهُ رنين هاتفه فقال: ثانيه واحده..
أجاب المكالمه قائلًا: أيوة يا رقيه؟! .. امممم . اممممم . إجتماع طارئ ؟! وأنا مالي أنا طارئ ولا مصطفي هو أنا هتجوزه؟!.. مش قولتلك إني off بقية اليوم؟!..إقفلي يا رقيه يا رب تموتي .
أثارت كلماته الهزليه في نفسها الضحك فقال مبتسمًا: بتضحكي؟. أصلك متعرفيش رقية دي زنانه إزاي.. و عمرها ما بلغتني خبر كويس أبدًا.. بتقوللي حالاً إن في إجتماع طارئ..
أومأت دون النبس بكلمة فقال: طيب أنا همشي ، هتحتاجي حاجه؟
ابتسمت بلطف وقالت: شكرًا جدًا يا مستر معتز، الحقيقه مش عارفه أشكرك إزاي!
تبسّم مردفًا: لا أبدا مفيش حاجه.. عن إذنك
غادر المشفي وهي تتبع أثرهُ بناظريها و حين جاءت لتلتفت إصطدمت بذاك الغاضب الحانق يقول: كان بيقوللك إيه؟
_خضتني يا تميم..مكانش بيقول.. عادي يعني مفيش حاجه مهمه.
نظر إليها بضيق تنطق به عيناه وقال: أومال كنتوا بتضحكوا ليه؟
نظرت إليه بضيق مماثل وقالت: كان بيتكلم مع رقية السكرتيره وضحكت علي كلامه يا تميم هو تحقيق ولا إيه؟
مسح وجهه بغضب وقال: لأ أبدا مش تحقيق ، بس يا ريت تتعاملي معاه بحدود شويه!
أثارت كلماته حفيظتها و إنطلق لسانها ينطق بحدة : هو في إيه !. إنت تقوللي إتعاملي معاه بحدود وهو يقوللي إتعاملي معاه بحذر.. هو إنتوا شايفيني عيله صغيره مش مسئوله للدرجه دي!!
ضيق عينيه متسائلاً بغضب دفين: بيقوللك تتعاملي معايا بحذر ؟!!
تأففت وقالت بنزق: خلاص بقا يا تميم لو سمحت..
أصدر هاتفه إتصالًا فأجاب : أيوة.. أيوة معاها ، و إنت عندك بتعمل إيه؟ طيب ليه مقولتليش إنك رايح كنت جيت معاك، ليا واحد صاحبي هناك كنت متفق أنا وهو لما أنزل هعدي أشرب معاه الشاي، خلاص خلص مشوارك وتعالي عشان عايز أرجع البيت .. سلام.
أنهي المكالمه فتسائلت: أحمد؟
أومأ موافقًا فقالت: هو فين؟!
أجاب وهو يعبث بهاتفهُ دون إهتمام : بيقول في وسط البلد ، عنده مقابلة شغل مع ناس هناك.. أنا خارج أجيب حاجه من بره وجاي.. عايزة حاجة أجيبهالك؟!
هزت رأسها بنفي و عادت لتثبت عيناها مجددًا علي ذلك الزجاج الذي يفصل بينها و بين والدها.
°°°°°
كان يجلس و يحتضنها بإشتياقٍ چم ثم راح يتطلع نحوها وهي تبتسم إليه مجددًا وقد تناست غيابه و إشتياقها الطويل إليه ، ما أنقي قلبها حقًا.
رتّب شعراتها الشقراء التي تشبه لون شعرهُ تمامًا ، ثم نظر إليها يقرّ عينهُ برؤيتها بعد أن إبتعد عنها أيامًا طوال..
_بابا ، إمتا هنرجع بيتنا؟
تسائلت صغيرته فتنهد قبل أن يجيبها : هي ” بيلا ” بطلت تلعب معاكي ولا إيه؟
نظرت إليه ” زهره ” بغضب لا يليق بعيناها الصغيرتان وقالت : أنا زهقت من “بيلا” ، مش بشوف غيرها كل يوم..
ظهر ذلك المشاغب من العدم وهو يقول: طيب و “معزوزي”؟ زهقتي منه بردو؟
نظرت إليه “زهره” و أردفت: زهقت منكوا كلكوا ، إنت و بيلا قدامي طول الوقت ، أنا عايزة أشوف بابا كل يوم ، عليزة ناكل سوا و نلعب سوا.. إنت بقيت ممل يا معتز!
ألقتها الصغيره بحدة فعنّفها والدها إذ قال : زهره ميصحش كدا ، إتكلمي مع الاكبر منك بأدب..
أشار معتز إليه و قال: سيبهالي..
جلس إلي جانبها وهمس إليها فقال: أنا بقيت ممل هاا؟.. طيب شوفي مين بقا اللي هيقنعه يطلع معاكي التخييم.
نظرت إليه “زهره” بإبتسامة وقالت: معزوزي..
ضيّق عينيه بغيظ وقال: اخرسي خاالص.. معزوزي ده تنسيه نهائي..
قلب الآخر عينيه بملل وقال: إيه الهبل بتاعكوا إنتوا الاتنين ده.. قومي يلا يا زهرة إلبسي عشان نخرج..
نظرت الصغيره إلي معتز فغمزها ثم نظر إلي “رياض” وقال : الأول كان في حاجه زهره عايزة تطلبها منك..
قال مغتاظًا : ما تقولي يا زهره هو لازم تبلغي معتز وهو يبلغني الأول؟
نظرت إليه زهره وقالت بخوف: المدرسه عامله ” كامبينج “و كنت ..
قاطعها قائلًا: طبعًا ممنوع..
تجرد وجه معتز من التعبيرات وقال بحنق: هي البنت لسه قالت حاجه بتقوللها ممنوع!!
تحدث إليه رياض بغضب: معتز لو سمحت.. ممنوع يعني ممنوع..
نظرت زهره إلي معتز وكأنها تستغيث به فتنهد وقال :لو سمحتي يا زهره هتكلم أنا وبابا..
نهضت إلي غرفتها حانقةً فإقترب معتز من رياض وقال: رياض عشان خاطري أنا.. أنا أول مره أطلب منك طلب بشكل شخصي.. زهره محتاجه تخرج من بين الأربع حيطان دوول.. محتاجه تشوف ناس جديده وتجرب حاجات جديده.. البنت بقا عندها طاقه سلبيه رهيبه ! إنت مبتشوفش إنفعالاتها ؟!! بقت هجوميه و عدائية و عصبيه جداا.. بعدها عنك مأثر و بيأثر و هيأثر عليها بالسلب!
و تابع بإستهجان: طفلة إيه دي اللي عندها ١٠ سنين بتتربي بعيد عن باباها و مامتها؟! ده أكتر سن هي محتاجه رعايه فيه .. بنتك مبقتش صغيره يا رياض.. زهره كمان سنتين تلاته هتبقا مراهقه..
قاطعهُ رياض منهيًا الحوار وقال: خلاص يا معتز اللي تشوفه، أنا موافق..
_ بس لازم تطلع معاها!
=نعم؟! هسيب شغلي حاضر و أروح أخيم مع شوية عيال..
_كل طفل هيكون معاه باباه أو مامته يا رياض..
تحدث معتز بحزن فوضع الآخر رأسه بين كفّيه بحيرة و يأس ثم أومأ قائلًا: ماشي يا معتز ، حاضر.
و نادي قائلاً: زهـره…
أسرعت الصغيره تركض إليه فقال مبتسمًا : إمتي هنطلع ؟
نظرت إليه بأعين لامعه بغير تصديق وقالت : الأسبوع الجاي!
أومأ برأسهِ بهدوء وقال: تمام.. قبلها فكريني عشان نخرج نشتري الحاجات اللي هنحتاجهاأ..
تسائلت بفرحه مهزوزه: حضرتك هتيجي معايا؟
أومأ بجديه وقال: طبعًاا.. أنا أصلا كنت محتاج أغير جو كده و أعمل حاجه غريبه.. و أهي الفرصه سمحت..
إحتضنته وهي تجلس علي قدمه اليمني وقالت: thanks daddy love you so much
قبّل رأسها فرحًا لرؤية فرحتها وقال ضاحكًا: إيه رأيك معزوزي كمان ييجي معانا..
صفقت بحماس قبل أن ينصدم هو بذلك المعتوه يجلس فوق قدمه اليسري وهو يقول: thanks daddy love you so much
إنفجرت ضاحكه بينما نظر والدها إلي معتز بغيظ وقال: يا أخي إكبر شويه بقاا.. مش معقول كده!
إبتعد معتز و إتخذ الحديث سريعًا مسارًا جديًا حيث قال *معتز” : أنا هخرج بقا أستناكوا في العربيه علي ما مودمزيل زهره تجهز.. متتأخروش.
……
إنتبهت “آصـال” إلي دخول ” أحمد” من الباب الخارجي للردهه حيث تقدم منها بشرود و جلس إلي جوارها فقالت: مالك تعبان ولا إيه؟
تنهد بضيق وقال: مفيش حاجه.. كان يوم تقيل بس..
ثم نظر حوله وهو يقول: أومال فين تميم؟
أجابت وهي تنظر للأمام بشرود: بقاله ساعه بيقول هيجيب حاجه من بره وجاي..
قطب حاجبيه بتعجب و قبل أن يستطرد حديثه كان تميم قد ظهر أمامهم من العدم.
.
_إتأخرت كدا ليه؟!
تسائل تميم وهو يقسم بينهم الأطعمه والمشروبات فأجابهُ “أحمد” قائلا: منا قولتلك كانت مقابلة شغل.
_مقابلة شغل بردو؟!
تسائل تميم وهو يغمز له بطرف عينهِ ليقول الآخر بضيق: اومال هتكون مقابلة إيه؟!
_ولما إنت نازل وسط البلد ليه مقولتليش؟ كنت هاجي معاك..
نظر إليه ” أحمد” وقال: وسط البلد إيه؟!أنا مكنتش في وسط البلد!!
نظرإليه “تميم” وقال: نعم؟! إنت يبني عندك خلل في دماغك!! مش كنت بتكلمني وقولتلي إنك عندك مقابلة شغل في فندق في وسط البلد!
نظرت إليهم “آصال” بقلق و إضطراب بينما قال “أحمد” : أيوة قولتلك عندي مقابلة شغل بس هنا مش في وسط البلد..
إنعقد ما بين حاجبيه بإستغراب وقال: إنت يبني بتكدب ليه؟! أنا مش فاهم!!
أدار الآخر وجهه جانبًا وقال: تميم أنا مش فاضي.. أنا راجع من مشوار طويل عريض هلكان ومصدع ومش فايق للهزي بتاعك ده.. أنا ماشي.
نهضت ” آصال ” وقالت بصوت حاد مضطرب : خلاص اسكتوا.. امشوا انتوا الاتنين مش عايزة حد..
إقترب منها “تميم” قائلا : آصال سيبك منه إنتي عارفه أحمد طول عمره ملوش كلمه.. يلا عشان نلحق ميعادنا..
تسائل “أحمد” : رايحين فين؟
_ملكش دعوة.
أجابهُ “تميم” بفظاظه و إصطحب “آصال” و غادرا المشفي.
….
_اللي إنتي بتحكيه ده طبيعي جدًا في حالتك.. إنتي حاليًا بتتعرضي لأبشع أنواع الضغط و الترهيب.. إنتي مش ضعيفه زي ما بتظني.. إنتي قويه جدًا إنك قادره تصمدي لحد دلوقتي..
كانت تلك كلمات الطبيب النفسي حيث قالها ببساطه مبتسمًا دون تكلف.
كانت تفرك أصابعها بتوتر بالغ و نظرت إلي “تميم” الذي حثها بعينيه مشجعًا إياها علي الإسترسال في حديثها فقالت: بس أنا تعبانه، بقيت بشك في أي حد ، حتي أقرب الناس ليا ، حاسه إن في حبل لافف حوالي رقبتي وبيخنقني بالبطئء..
قاطعها الطبيب فقال: إنتي مخطئه من البدايه.. مكانش لازم تنفذي الأوامر اللي كان الشخص المريض ده بيقولك عليها.. كان لازم تعرفي إن المبتز ده أضعف منك ، كنتي لازم تواجهي بس بعد ما ينفذ اللي كان بيهددك بيه.. وقتها كنتي هتواجهي أمر واقع.. يعني هتقدري وقتها تتنفسي وتدافعي عن نفسك.. مش تسيبيه يضغط عليكي ويساومك وتقولي كنت بحاول أواجه.. غلط.. المواجهه دايما بتنجح لو مفيش حاجه بتضغط عليكي.. لكن طول ما إنتي مضغوطه و متحاوطه بالتهديدات تأكدي إنك مش هتقدري تواجهي.. هتضيعي كل محاولاتك في الطريق الغلط..
أنهي حديثه قائلًا: هكتبلك حبوب مهدئه لازم تنتظمي عليها.. هتساعدك تخرجي من حالة الشتات النفسي اللي انتي فيها و هتخليكي أهدي وتعرفي تفكري وتتصرفي أحسن..
و نظر إلي “تميم” الذي يرهف السمع إلي حديثه بإهتمام ثم قال: لازم تكونوا جمبها الفترة دي أكتر من أي فتره تانيه.. متسيبوهاش لوحدها و حاولوا تبعدوها عن اي جو فيه توتر .. و يا ريت تغير جو هيفيدها كتير.. و إن شاء الله الزياره الجايه تكوني لوحدك لو مفيش عندك مانع .. اتفضلوا.
……….
~~ الرسالـة الثامنة عشر ~~
” لقد كبرت أعوامًا في عام ؛ ما عدتُ أشعر بالشغف تجاه شىء بتاتًا، أصبحت منطفئه مهزومه ..
بداخلي الكثير من الفوضي التي لا أُحسن التعبير عنها ، لدي الكثير من الرسائل التي لم تُكتب بعد ، و لكني حقًا إكتفيت.
أحتاج إلي البكاء كثيرًا حين أختلي بنفسي و أنا أُحصي عدد إنكساراتي في زمنٍ وجيز ، زمنٍ غريب لا يُشبهني في شىء..
ألجأ لزيارة الطييب النفسي بعد أن أصبحت لا أستطيع أن أمِيزَ الخبيث من الطيب ،الكل بات محلّ إتهام بالنسبةِ لي و لو غضضتُ الطرف عن حالتي لصرتُ أنا أول المتهمين..!
أتمني أن يُنقذني الله من فوضي تلك الحياه.”
*****
كانت تجلس أمام ذلك السرير الذي يرقد والدها فوقهُ وهي تمسك بيديه وتسند رأسها إليهما و دمعاتها تتساقط بتعب..
_وحشتني يا بابا.. وحشتني و محتاجالك أكتر من أي وقت فات ، مكنتش أتخيل إن الغيبه تطول أوي كده يا بابا.. كل حاجه في حياتي بايظه و مش لاقيه حد يهون عليا.. إبتسامتك وحشتني أوي .. صوتك في البيت وحشني.. الأكل من إيدك وحشني.. حضنك وحشني أوي يا بابا..
أطبق أصابع يدهُ بوهن فوق أصابع يدها فإرتجف بدنها و نظرت إليه بفرحه ظنًا منها بأنهُ قد عاد إليه وعيه و لكنها وجدته مغمض العينين ، ساكنًا دون حراك.
خرجت من الغرفة مسرعة فرآها كلاً من “أحمد” و “تميم” اللذان ينتظراها بالخارج فنهضا إليها وقال “تميم” : في إيه يا آصال؟
قالت بفرحه من بين دموعها: بابا يا تميم.. بابا حرك إيديه أنا حسيت بيه..
ركض فرحًا يستدعي الطبيب لرؤية عمهُ فقال : للأسف هو ما زال غايب عن الوعي ، بس مؤشراته الحيويه مستقره والحمد لله ، المريض اللي بيكون في غيبوبه بيكون بينه وبين الموت شعره لكن بيقدر يحس بحاجات كتير حواليه و يسمعها كمان ، زي وقع خطواتنا ، كلامنا ده ممكن يكون سامعه بالفعل .. كلامك يا آنسه آصال..
نظرت إليه آصال بإنتباه فقال: عشان كده بننصح دايمًا لما يكون مريض في غيبوبه إن أهله يتكلموا معاه و يحكوله كمان ذكريات او احداث حلوة ، حاجات تخليه يتمسك بالدنيا و يرجع من حالة اللاوعي اللي بيكون فيها .. وده اللي حصل دلوقتي.. إنتي بتقولي صوابعه اتحركت وكأنه بيمسك ايديكي ، ده رد فعل ناتج عن كلامك ليه.. هو حاسس بيكي و سامعك و قلبه معاكي كمان..
أردف كلماته الأخيره مبتسمًا لتنفجر أنهار عيناها و تنتحب كما لم تفعل من قبل..
ربت الطبيب علي كتفها بحنوٍ وقال: متقلقيش.. إن شاء الله هيكون كويس.. بس إنتي لازم تقربي منه أكتر.. خليكي معاه طول الوقت و إتكلمي معاه وإنتي متأكده إنه بيسمعك، إحكيله علي مواقف طريفه حصلت معاكوا قبل ما يتعب.. إحكيله قد إيه إنه واحشك و بتنتظري يقوم بالسلامه..كل دي حاجات بتحفز العقل الباطن إنه يتمسك بالحياه ويفوق من حالة اللاوعي اللي هو فيها..
أومأت بهدوء لينسحبوا جميعهم من الغرفه ما عدا هي..
بقت تحدثه و تُملي علي مسامعه كل ما تشغر بهِ ، تنتقي اللحظات السعيده القليله من بين كم الأهوال التي تعيشها و تسردها عليه .
بعد وقت ليس بالقليل غادرت الغرفه و خرجت لتجد رفيقاها لا يزالان ينتظراها بالخارج..
أبصرت عن يمينها لتجد “معتز” يخطو نحوها بإبتسامه واثقه و وقف أمامها وقال: إزيك يا آصال.. أنا حالا كنت عند الدكتور و سألته عن حالة عمي و حكالي اللي حصل..
أومأت بإبتسامه فقال: ده مؤشر كويس جدا .. إن شاء الله هيتحسن و يفوق من الغيبوبه..
أومأت براحه قلّما شعرت بها وقالت:إن شاء الله.. أنا متشكره جداا لاهتمامك.. إنت إنسان جميل يا مستر معتز..
إنشرح صدره و إتسعت إبتسامته لإطرائها علي نُبله و شهامته بينما علي الجانب الآخر كان يقف زوجين من الأعين الحانقه المحتقنه بالدماء الثائرة من شدة الغضب ، ودّ كلٌ منهما لو إنقض عليه الآن و أبرحهُ ضربًا..
برز صوت “أحمد” بحقدٍ دفين : شكله ده الزبون الجديد..
طالعهُ ‘تميم’ بغضبٍ عاصف بعد أن أطلق مسبةً معترضه وقال : أقسم بالله إحنا لو في مكان تاني و ظرف تاني كنت عرفتك مقامك..
إبتسم الآخر ساخرًا وقال: بالراحه علي نفسك شويه يا عم تميم ، اللي يسمعك يقول مش فارق معاك..
ثم نظر إليه بثبات داخل عينيه وقال : مع إن النار بتاكل فيك دلوقتي.
سحب “تميم” شهيقًا طويلًا و زفره بقوة غاضبة ثم ترك مجلسه و غادر المشفي بأكمله.
_لو إحتاجتي أي حاجه كلميني فورًا ، متتردديش!
ألقاها معتز مبتسمًا فأومأت له بالإيجاب ثم غادر المشفي يتبعهُ ” أحمد” الذي إستوقفهُ حين ناداه قائلًا : يااااا بشمهندس..
نظر “معتز” خلفهُ فقال الآخر : كلمه لو سمحت..
توقف “معتز” متخصرًا بترقب و هز رأسه مستفهمًا فقال “أحمد” : يا ريت بلاش الاهتمام الاوڤر ده.. احنا مع آصال ومش سايبينها و أي وقت تحتاج حاجه إحنا جمبها.. شكرًا ليك..
نظر إليه معتز دون إبداء أي رد فعل ثم قال: مش فاهم.. حضرتك إيه اللي مضايقك أهتم أو لأ؟! ما تجيب م الاخر ..
نطق “أحمد” مغتاظًا وقال: إنت عايز من آصال بالظبط؟
زم الآخر شفتيه بجهل وقال: وأنا هكون عايز منها إيه؟! موظفه عندي و و والدها تعبان و بسأل عليها..
_ و يا تري بقا بتعمل كده مع كل الموظفين ولا آصال بس؟
= إنت إزاي تسأل سؤال زي ده؟! آصال بس طبعًا.
إنتفخت أوداجهُ و إحمرت عينيه بغضب و ظل يغلي و يزبد و كإنه أُصاب بنوبة من الجنون بينما إرتدي “معتز” نظارتهُ بخيلاء و غادر.
…..
كانت تمسك بهاتفها تتفحص تلك الصور التي تجمعها مع والدها ، هنا تبتسم و هنا تحتضنه و هنا يقبلها ، جففت دموعها وهي تلهم نفسها الصبر و تمنّي نفسها بعودته إليها عمّا قريب..
كانت نفسُها قد إهتدت و إستقرت قليلًا و تخلت عن ذلك الضغط الذي طالما قهرها.. و لكن أحدهم كان له رأيٌ آخر.
إتصال هاتفي من رقم آخر مجهول قد أتاها ليجعل ثائرتها تثور وقد أحست بالموت يدنو إليها إذ قال ” تعرفي إنك ****** فعلا.. يعني أنا بقالي قد إيه بديكي أعذار و حجج و إنتي عماله تستعبطي و تسوقي فيها ، مره تقوليلي أصل بابا مبينزلش لا أصل بابا هيسافر وهجيلك البيت لا أصل بابا بيموت..*** أنا خلاص مش هصبر تاني و مش هصدقك تاني.. أخرك النهارده كمان ساعه تبقي عندي.. ولو محصلش و مجيتيش مش هقوللك زي كل مره هفاجئك، لا ده أنا المره دي هحرق لك المفاجأه.. كمان ساعه لو مجيتيش علي العنوان اللي هبعتهولك ده أنا هبعت صورك لكل زمايل أبوكي في الشغل ، و الجيـران ، و جيران الجيران ، هفضحك ، هدمرك ، هخليكي تتمني الموت في كل لحظه من النظرات اللي هتشوفيها في عنين الناس ، هخلي أبوكي يموت بحسرته و سيرته تبقي علي لسان الكل..
إهتز قلبها و شعرت بأن الكون قد ضاق عليها وقالت: حرام عليك إنت بتعمل معايا كده ليه؟! أنا عملتلك إيه عشان تعمل معايا كده؟!!
_ عملتي أو معملتيش كله واحد عندي.. حظك الاسود وقعك في واحد مريض زيي.. ومش هسيبك غير لما ادمرك.. و طول منتي عايشه هتفضلي تحت رحمتي…..
*****
~~ الرسالـة التاسعة عشر ~~
” يبدو أن دفتري قد إكتفي !!لقد فقدت الرغبه في العيْش .. سئمت الإنتظار ، سئمت التظاهر بالقوة ، سئمت البكاء ، سئمت كل شيء..
حتي نقطة ضعفي قد سئِمَت!
لا أعلم هل سأكون محل شفقة الجميع أم لا ؟
لا أعلم إن كنت سأبدو في أعينهم ضعيفةً لأني هُزِمت ؟!
أم سأبدو قويةً لأني قد واجهت!!
في الحالتين فشلت.”
……….